انهيار الليرة والحرب والسياسات.. محركات الفقر المتصاعد في لبنان
انهيار الليرة والحرب والسياسات.. محركات الفقر المتصاعد في لبنان
أدق المؤشرات الدولية تظهر أن لبنان دخل مرحلة جديدة من التدهور الاجتماعي والاقتصادي، حيث لم يعد الفقر ظاهرة مقصورة على فئات محددة، بل صار يهدد استقرار الطبقة الوسطى ويضغط على النسيج الاجتماعي برمته، وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن نسبة الفقر تضاعفت خلال العقد الماضي ووصلت إلى نحو 44 في المئة من السكان، ما يعكس اتساع دائرة الحرمان وانهيار مكتسبات زمن طويلة.
محركات الأزمة
تتحدد جذور الأزمة في تداخل عوامل مالية وهيكلية وسياسية وأمنية، وفق ما أوردته شبكة "لبنان 24" السبت، وقد أدى انهيار سعر صرف الليرة منذ 2019 وتقلبها الحاد إلى تآكل القدرة الشرائية واحتياطيات المواطنين ومدخراتهم المصرفية، في حين تُحمّل التقارير خسائر جسيمة لقطاع النشاط جراء الحرب الأخيرة وتوقف كثير من أنشطة الإنتاج والخدمات، وتشير تقارير متعددة إلى خسائر اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات نتيجة الحرب، إضافة إلى احتياجات إعادة إعمار وتثبيت البنية التحتية والقطاع السكني في لبنان بحسب بيانات البنك الدولي.
القطاع المصرفي والمالية العامة يظلان نقطة ضعف مركزية، فقد فقدت الودائع الحقيقية جزءاً كبيراً من قيمتها، في حين أدى نقص السيولة والاتفاقات المعقدة بين البنوك والدولة إلى تفاقم انعدام الثقة، الأمر الذي أدى إلى تقليص قدرة الأسر على مواجهة الصدمات اليومية، وتحدثت تقارير مالية دولية عن فقدان عشرات المليارات من الودائع وأثر ذلك في قدرة الاقتصاد على التعافي وفق "فايننشال تايمز".
أبعاد إنسانية ونتائج يومية
الناتج المباشر لهذه العوامل يظهر في تفاقم انعدام الأمن الغذائي وارتفاع نسب الفقر متعدد الأبعاد في لبنان، وتشير تقديرات برنامج الأغذية العالمي إلى أن نحو 1.17 مليون شخص يواجهون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي بين أبريل ويونيو 2025، وهو رقم يعكس هشاشة المكاسب المؤقتة ويضع ملايين في دائرة العوز الغذائي.
وتأثرت بنى الرعاية الصحية والتعليم بشدة؛ إذ أغلقت مؤسسات صحية أو قلصت خدماتها، والأسر باتت تؤجل أو تلغي العلاج ببسبب كلفة الدواء أو الزيارة الطبية، وفي قطاع التعليم تسجل معدلات انقطاع متزايدة بسبب تكاليف النقل والرسوم، واضطرار الأطفال للعمل لدعم أسرهم، كذلك ارتفعت مظاهر الفقر في المدن والأرياف بتوسع ظاهرة التسول وشراء السلع الرديئة وتهريب اليد العاملة أو هجرة العقول.
ردود منظمات حقوق الإنسان والهيئات الأممية
تصدرت منظمات حقوقية دولية ومحلية المشهد التحذيري؛ فمطالبات بالمزيد من شبكات الحماية الاجتماعية والتمويل الطارئ صارت سابقة لأوانها، وأكدت هيومن رايتس ووتش الحاجة إلى توسيع نطاق الحماية الاجتماعية لتشمل قطاعات واسعة خارج برنامج الاستهداف الضيق، في حين عدت منظمة العفو الدولية تآكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في لبنان يحتاج استجابة عاجلة لحماية كرامة الناس.
المنظمات الأممية والدولية دعت بدورها إلى تمويل أكبر وبرامج إسعافية مؤقتة تمهد لإصلاحات هيكلية، وتطلب خطة الاستجابة اللبنانية المعتمدة مصادر تمويل عاجلة لمئات الآلاف، في حين يضغط المجتمع الدولي والوكالات الأممية لتوحيد الجهود بين دعم الطوارئ والتخطيط لإعادة إعمار وإنعاش اقتصادي اجتماعي.
الاستجابات الحكومية والبرامج القائمة
حكومة لبنان والوزارة المختصة أطلقت مع برامج دولية آليات دعم نقدي مثل برنامج "أمان" الذي يغطي مئات الآلاف من المستفيدين شهرياً ويهدف إلى شبكات أمان اجتماعي مؤقتة ودعم التمكين الاقتصادي، مع تأكيدات وزارية على تحديث الأرقام والسعي لتوسيع نطاق المستفيدين. مع ذلك، يواجه البرنامج قيوداً مرتبطة بتمويل محدود واعتماد كبير على الجهات المانحة الخارجية.
القانون الدولي والتزامات الدولة
من منظور حقوقي، يعد الوصول إلى الحد الأدنى من المعيشة والرعاية الصحية والاجتماعية جزءاً من حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
للاتفاقيات الدولية دلالات عملية على مطالبة الدول بوضع شبكات حماية اجتماعية قابلة للتطبيق وغير تمييزية وضمان سبل كفالة الحق في الأمن الغذائي والرعاية الصحية والتعليم، وأكدت منظمات دولية، منها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، أن السياسات الراهنة لا تكفي للوفاء بهذه الالتزامات وتدعو لتدخل حكومي منظم وممول.
خلفية تاريخية قصيرة
تعود جذور الانهيار الاقتصادي الحالي إلى مزيج من تراكم الاختلالات المالية منذ سنوات وما تلاه من احتجاجات 2019، ثم انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وتدهور الثقة المصرفية، مروراً بعامٍ من الصدمات الإقليمية والحرب التي زادت العبء الاقتصادي والاجتماعي، وهذه السلسلة من الصدمات المحورية حولت الأزمة المالية إلى أزمة اجتماعية شاملة تتطلب استجابة طويلة الأجل.
آثار وسياسات مطلوبة وفق المراقبين
المحلّلون والجهات الحقوقية والأمم المتحدة يتفقون على ضرورة الجمع بين دعم طارئ فوري لتأمين الغذاء والرعاية والتدفئة والدواء، وبين إصلاحات هيكلية تشمل إعادة هيكلة القطاع المالي، توسيع التغطية الاجتماعية، وضبط الإنفاق العام وفتح المسارات للاستثمار المنتِج، كما تؤكد توصيات الخبراء أن الاعتماد على برامج استهداف ضيقة لن يفي بالغرض ما لم تترافق مع سياسة وطنية شاملة للتشغيل والتمكين الاقتصادي.
البيانات والمؤشرات الدولية والمحلية تظهر أن لبنان يواجه أزمة فقر مترسخة تتطلب تضافر سبل المساعدة الفورية وإصلاحات طويلة الأجل، فإن ارتفاع نسب الفقر، وتفاقم انعدام الأمن الغذائي، وانهيار القدرة الشرائية، كلها عوامل تجعل العودة إلى مسار الاستقرار أمراً مستحيلاً من دون خطة وطنية موثوقة وموارد دولية منسقة، وتؤكد المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة التزام القانون الدولي بالحماية الاجتماعية؛ والرهان الآن على قدرة الدولة والمجتمع الدولي على ترجمة هذه الدعوات إلى سياسات وتمويل يمنعان سقوط لبنان إلى حلقة لا تعود منها الأسر والأجيال الشابة.